الكتاب : إعجاز القرآن
المؤلف : صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
- - - - - - - - -
إعجاز القرآن
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
[مفرّغ](
- - - - - - - - - -
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
اللهم إنا نسألك علما نافعا، وعملا صالحا، وقلبا خاشعا، ودعاء مسموعا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما وعملا، يا أرحم الراحمين.
وكالعادة ريثما يجتمع الإخوة نجيب عن بعض الأسئلة.
س1/ قال: ما حكم سب الدهر؟
ج/ سب الدهر محرم؛ لأنه إيذاء لله جل وعلا، كما قال جل وعلا في الحديث القدسي «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار»، فسب الدهر بمعنى أن يتنقّصه أو أن ينسب إليه الأفعال القبيحة وأشباه ذلك، فهذا في الواقع لا يتوجه للدهر؛ لأن الدهر يقلَّب الدهر ليس يفعل شيئا، وإنما يتوجه إلى من جعل الدهر على هذه المثابة، ومن جعل الدهر على هذه الصفة، وهو الله جل وعلا، لهذا قال «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار»، فمسبة الدهر حرام وإيذاء لله جل وعلا.
وقوله جل وعلا في الحديث القدسي (وأنا الدهر) لا يُفهم منه أن الدهر من أسماء الله جل وعلا؛ بل يعلم أن الذي سب الدهر وقعت مسبته على الله جل وعلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُصرِّف الدهر كيف يشاء.
إذا تبين ذلك قد ذكرنا مرارا أنّ وصف الدهر بأوصاف مما يقع فيه من الأوصاف المشينة ليست مسبّة للدهر، فقول القائل هذا يوم أسود أو هذا الشهر شهر نحس أو نحو ذلك، فإن هذا ليس بمسبة للدهر لأن هذا وصف لما يقع في الدهر لما يقع في اليوم أو ما وقع فيه، لما يقع في الشهر أو لما يقع فيه، وهذا كما قال جل وعلا ?فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ?[القمر:19]، وقال سبحانه ?فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا?[فصلت:16] فوصف الله جل وعلا الأيام التي عزز بها الكفرة أنها أيام نحيسة، فمثل هذا ليس بسب للدهر؛ لأن هذا لأنه وصف لما وقع فيه بالإضافة إلى المخلوق.
س2/ قال: هل يدخل في سب الدهر قول القائل الدهر باطل والزمان غدار ونحو ذلك؟
ج/ الجواب: نعم أن هذا من التنقص، وهذا من سب الدهر؛ لأن الدهر لا يبغي على أحد ولكن الذي قدر الدهر وقدر فيه ما قدر هو الله جل جلاله.
س3/ هل آية الرجم المعروفة تعتبر من كلام الله، غير أنها منسوخة ولا يجوز التعبد يتلاوتها؟
ج/ الجواب: نعم، كل آية نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام فهي من كلام الله جل وعلا، سواء أكانت باقية أم كانت منسوخة، كما قال جل وعلا ?مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا?[البقرة:106]، وفي القراءة الأخرى (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَنْسَأْهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) فالآية التي نُسخت قرآن ولكن نسخت تلاوتها والتعبد بذلك، وحكمها منسوخة، وهذا إذا كانت منسوخة، وإذا لم تكن الآية منسوخة فإنه قد تُترك آية بغير النسخ كما قال (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا).
س4/ يستخدم بعض الكُتاَّب ألفاظ منسوبة إلى القرآن كقولهم: قال القرآن، أو تحدث القرآن، فَنَّدَ القرآن هذه الشبهة، هل يصح الحكم عليها بأنها متفرعة عن القول بخلق القرآن؟
ج/ الجواب:لا؛ لأنّ هذه الكلمات جرت على كثير من أئمة أهل العلم السابقين، يقولون قال القرآن، ورد القرآن ونحو ذلك، فينسبون الفعل إلى القرآن، ومعلوم أن القرآن كلام الله جل وعلا، وفي الحقيقة القائل هو الله جل وعلا، كأنهم قالوا قال الله في القرآن، تحدث الله بالقرآن، وردّ الله في القرآن، وأشباه ذلك.
س5/ ما حكم تقليد الأئمة أثناء قراءة الإمام في الصلاة؟ بلغنا عنك أنك تحرم ذلك ونريد التأكد.
ج/ المشكلة في بعض الشباب أنه يأخذ الحكم وما يفهم الصورة التي انجر الكلام عليها، تقليد الأئمة!! إيش معنى تقليد الأئمة، ما معناه؟ سمع مقطع بحث في الموضوع بحثناه هنا في المسجد، وما فهم المسألة فقال أنت تحرم تقليد الأئمة، ولو سألناه ما معنى تقليد الأئمة؟ ما عرف الجواب، لهذا دائما أوصيكم بأن تحرص على فهم المسألة قبل الحكم؛ لأنك قد تنزل الحكم الحل أو التحريم على غير المسألة التي تكلم عليها العلماء، فالكلام ينبغي أن يفهم أولا تفهم الصورة، ما الذي تتحدث عنه قبل أن تعرف الحكم والدليل، حتى إذا اتضحت الصورة بعد ذلك يأتي الدليل ويأتي الحكم، وقد ذكرنا لكم في كيفية دراسة الفقه، كيفية دراسة العقيدة، أنّ أول مرحلة لدراسة العقيدة ولدراسة الفقه:
أن تعرف ألفاظ الكلام لغة أهل العقيدة، لغة أهل الفقه التي يتحدثون بها.
ثم ثانيا أنْ تفهم صورة المسألة التي تتحدث بها.
ذكرنا لكم سبع نُقاط في الفقه وفي العقيدة التي من تدرج فيها أحسن تصور المسائل وفهم الدليل والتدليل والخلاف إلى غير ذلك.
فهذه المسألة تقليد الأئمة أثناء القراءة -قراءة الإمام في الصلاة- هذه غير واضحة وإن كنت أعرف ماذا تحدثنا به، تقليد الأئمة ما معناه، تقليد الأئمة، الذي تكلمنا عنه التلفيق بين قراءة القرّاء في الصلاة الواحدة؛ يعني أن يقرأ قارئ بقراءة عاصم برواية حفص ويقرأ أيضا بورش، هذا تلفيق ولا يصلح، يقرأ بالقراءة التامة حتى وهو منفرد يعني في غير جماعة، إذا قرأ منفردا ما يجوز له أن يلفق يقرأ آية بقراءة حفص عن عاصم ثم يقلب بقالون عن نافع ثم يقلب إلى كذا، هذا تلفيق، والقراءة سَنَن قال جل وعلا ?فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ?[القيامة:18]، أنت تتبع قراءة القارئ التي نقلها عن الصحابة رضوان الله عليهم ولا تلفق في القراءة، التلفيق في القراءة لا يجوز.
نعم... إذا كان يقصد تقليد الأئمة يعني محاكاة الصوت: أن يقرأ مثلا بقراءة الشريم أو بقراءة السديس أو بقراءة علي جابر، هذا ما [ظننت] أن تكلمت فيه بحل أو بحرمة.
س6/ كان من الردود على المعتزلة في الدرس الماضي أنهم إذا أرادوا تأويل صفة الكلام فإنه يترتب عليه نفي الصفات التي أثبتها المعتزلة، مع أنه قد تقرر في كثير من الدروس أنّ المعتزلة لا يثبتون أي صفة من الصفات، فما الجواب؟
ج/ الجواب: أن الذي قررناه وهو المعروف أنّ المعتزلة يثبتون ثلاثة صفات، وأنّ الذين لا يثبتون إلا صفة الوجود المطلق بشرط الإطلاق هم الجهمية.
وكل من اثبت صفة من الصفات ونفى الباقي فإنه يطعن بإثباته على ما نفاه.
مثلا يقال لمن أثبت صفة الوجود قالوا إن الله جل وعلا ليس له إلا صفة الوجود فقط؛ الوجود المطلق، يقال له: لم نفيتَ غيرها من الصفات؟ لم نفيت صفة العلم؟ لم نفيت صفة الكلام؟ لم نفيت صفة المحبة؟ بل سيقول: إن هذه الصفات تستلزم المشابهة التمثيل أو التشبيه، فيقال: لم؟ فيقول: لأن المخلوق يتكلم، فكيف نقول إن الله يتكلم والمخلوق يتكلم، معناه فيه تشبيه. يقول: إن الله يحب والمخلوق يحب معناه إن هذا فيه تشبيه. فكذلك يقال: الصفة التي أثبتها وهي الوجود أيضا مشتركة، فالمخلوق موجود وتقول الله جل وعلا موجود، المعتزلة يثبتون القدرة لله جل وعلا، والمخلوق عنده قدرة، فما الفرق ما بين ما أثبت وما بين ما نفى؟ الوجود أيضا مشترك في التشبيه، إذا قلنا إن وجود الصفة من حيث هي في المخلوق في الله جل وعلا هذا تشبيه فإذن الوجود فيه تشبيه، والله جل وعلا موجود والبشر موجودون إذن ثَم تشبيه، فالصفة التي أثبتها فيها تشبيه وهو يريد أن ينفي التشبيه أن ينفي الصفات الأخرى لأجل التشبيه.
كذلك نأتي للأشاعرة نقول أنتم أثبتم سبع صفات السمع والبصر والعلم والكلام... إلى آخره، فنقول لم أوَّلتم صفة الوجه؟ لم أوَّلتم صفة اليدين؟ لم أوّلتم صفة الغضب، صفة الرضا، صفة المحبة، صفة الرحمة، إلى غير ذلك، يقولون؛ لأنّ هذه تستلزم التشبيه، نقول: كذلك صفة السمع تستلزم التشبيه، كذلك صفة البصر تستلزم التشبيه، كذلك صفة الإرادة؛ الله جل وعلا يريد والإنسان يريد، لماذا نقول إن هذا فيه تشبيه؟ يريد الجميع منهم على اختلاف فرقهم بأن إرادة الله جل وعلا مختلفة عن الإرادة المخلوق، وأن قدرة الله جل وعلا مختلفة عن قدرة المخلوق.
نقول إذن كل باقي الصفات مثل هذا الأصل فكلام الله جل وعلا يختلف عن كلام المخلوق ورحمة الله تختلف عن رحمة المخلوق فإثبات الصفات إثبات وجود؛ إثبات لفظ ومعنى لا إثبات كيفية، فلا اشتراك في الكيفية، الله جل وعلا ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ?[الشورى:11]، فكما أنه سبحانه له سمع يليق بجلاله وعظمته فكذلك له بصر يليق بجلاله وعظمته، له كلام يليق بجلاله وعظمته، وسمع الإنسان وبصر الإنسان وكلام الإنسان هذا يليق بحال الإنسان.
فإذن الاشتراك في أصل الصفة، أما الكيفية وتمام المعنى فهذه لا اشتراك فيها.
فإذن كل مؤول للصفات من الفرق يلزمه التناقض، كل من أول يلزمه التناقض؛ بل كل أهل البدع دائما في التناقض؛ لأنه يتناقض، ولو أعملوا القاعدة وأمعنوا النظر للقرآن والسنة وما قاله السلف والصالح لما صار التناقض في أبواب الاعتقاد أبدا، ولكنهم تارة يثبتون وتارة يتأولون بعقولهم لأنهم خلطوا قولا سنيا وآخر عقليا.
س7/ هل معنى قول من قال أن القرآن مخلوق يعني مثل أعضائنا وغير ذلك من المخلوقات ؟
ج/ الجواب: لا، يقولون القرآن مخلوق؛ يعني أنّ الله سبحانه خلق هذا الكلام وسماه قرآنا، أو أنّ الله جل وعلا خلقه في نفس جبريل فعبر جبريل بذلك، ليس يعني أن ثَم شيء مخلوق صفته يعني يمس ويحس مثل الأعضاء، لا، خلق هذا شيء يعني أنه ليس صفة له خلقه في نفس جبريل وعبر جبريل عما وجده في نفسه.
س8/ كيف نوفق بين كون الله تكلم بالقرآن وأنّ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ؟
ج/ الجواب: أن مرتبة الكتابة أو جهة الكتابة للقرآن غير جهة الكلام، فالله جل وعلا يعلم ما سينزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ?فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ?[هود:14]، فالله سبحانه يعلم أن هذا القرآن -هذا الكلام- سينزله على عبده عليه الصلاة والسلام، فجعل هذا الذي سينزله مكتوبا تشريفا له وتعظيما لمكانته لمكانة هذا القرآن؛ ولأنه حجة الله الباقية إلى قيام الساعة، أما التكلم فكلام الله جل وعلا بالقرآن إنما هو حين أراد أن يبعث محمدا عليه الصلاة والسلام، أو حين أراد أن ينبهه.
أما نزول القرآن جملة في السماء الدنيا فهذا أيضا عند من قال به مكتوب لا نزول مسموع.
س9/ هذا يقول: إذا خلوت بنفسي تراودني نفسي على فعل المعصية وأحاول المجاهدة لكنها تغلبني، مع أن ظاهري الصلاح، فهل يعدّ هذا من الخلوة بمحارم الله علما بأني أستر على نفسي؟
ج/ الجواب: أن العبد المؤمن إذا من الله عليه بالنفس اللوامة فإنه على خير، النفس التي تلومه على فعل الذنب وتحسن له فعل الخير، وقد جاء في الأثر: إذا سرّتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت المؤمن، أو المؤمن تسره حسنته وتسوؤه سيئته.
وإذا ابتلى الله جل وعلا العبد بذنب فإنه إذا عمله في خلوة أيسر مما إذا عمله في علن أو جهر به؛ لأن الله جل وعلا يستر على عبده، قد ثبت في صحيح البخاري أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال «كل أمتي معافى -يعني يغفر له بالأسباب- إلا المجاهرون»، «كل أمتي معافى إلا المجاهرون»، قالوا: ومن المجاهرون يا رسول الله؟ قال «من يصبح وقد ستر الله عليه ذنبه فيصبح يتحدث للناس بما فعل في ليلته»، فالعبد إذا أبتلي بمعصية فإن المعصية إذا كانت سرا لم تضر إلا صاحبها، ويمنّ الله جل وعلا على عبده المنيب بالمغفرة، وأما إذا تحدث بها فإنها المجاهرة بمعصية الله يتحدث فعلت وفعلت من باب الاستعلاء وعدم رعاية حق الله في المعصية والاستهانة بالمعصية والتهاون بها.
لهذا قال بعض أهل العلم: إن العبد قد يعمل كبيرة من الكبائر فتظل نفسُه تلومه وتلومه وتلومه حتى يغفر الله جل وعلا له تلك المعصية الكبيرة باستغفاره وبإنابته، وإن العبد ليفعل المعصية من الصغائر فيظل يتهاون بها يتهاون بها ولا يراها شيئا حتى تؤول به إلى كبيرة.
وقد ثبت في الصحيح أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن الرجل الكافر -أو قال المنافق- إذا همّ بالمعصية فكأنما مرّ على أنفه ذباب فقال به هكذا –يعني ليست بشيء، بعد فترة قليلة كأنه ما عمل شيئا- وإن العبد المؤمن أو قال الصالح إذا فعل معصية فكأنما على رأسه جبل يخشى أن يقع عليه. فالعبد المؤمن إذا كان تسرّه حسنته..... (1) وفعلت وقابل ونظر وغشيت وكذا وكذا وإلى آخر ذلك مفاخرا بذلك متهاونا به.
نسأل الله جل وعلا للجميع المغفرة والتوبة والإنابة وأن يمن علينا بالعمل الصالح وبمغفرة الذنوب جميعها. اقرأ
(((((
__________
(1) يوجد قطع في الشريط.
- فمن سمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى?سَأُصْلِيهِ سَقَرَ?[المدثر:26]، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال ?إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ?[المدثر:25]، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر.
وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر.
[الشرح]
الحمد لله حق حمده وصلى الله وسلم على نبيه وعبده، وعلى آله وصحبه وسلم اللهم تسليما مزيدا.
أما بعد:
قد مضى الكلام في الدرس الماضي عن كلام الله جل وعلا، وعلى أن القرآن كلام الحق سبحانه وتعالى، وعلى أنّ القرآن كلام الله جل وعلا بحروفه ومعانيه، وأنّ الله سبحانه تكلم به، فمنه بدأ فسمعه منه جبريل عليه السلام، وبلغه إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
وتقدم لنا إبطالَ قول القائل إن القرآن مخلوق، أو أنَّ الكلام عبارة عن كلام الله، أو قال أن كلام الله جل وعلا [محدث] وكلام الله جل وعلا قديم، ونحو ذلك من أقوال أهل البدع والضلالات؛ من أقوال المعتزلة والأشاعرة والفلاسفة وغلاة الصوفية، وتقدم لنا ذلك مختصرا في أوجه الرد على أولئك.
وفي مسألة الكلام النفسي ذكرنا بعض الأوجه، وسبق أن تقدم لنا في شرح الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية ردود مزيدة على ما ذكرنا، وقد ردّ شيخ الإسلام ابن تيمية على من قال بالكلام النفسي بتسعين وجها، في رسالة مطبوعة سميت التسعينية؛ لأنها اشتملت على تسعين وجها تردّ قول من قال إن كلام الله جل وعلا نفسي؛ يعني أنه لم يتكلم بصوت يسمع وإنما ألقى ما أراده بروع جبريل.
هذه الجملة التي سمعناها الليلة متصلة بالبحث نفسه، قال (فمن سمِعَهُ-يعني القرآن- فَزَعَمَ أَنَّهُ كلامُ البشرِ، فَقَدْ كَفَرَ، وقد ذمَّهُ الله وعابَهُ وأوعَدهُ بسَقَر، حيث قال تعالى? سَأُصْلِيهِ سَقَرَ?[المدثر:26]، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللهُ بِسَقَرٍ لمنْ قال ?إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ?[المدثر:25]، عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته ليسَ كالبشر.)
هذه الجمل مشتملة على تقرير مسألة عظيمة، وهي أن كلام الله جل وعلا لا يشبه قول البشر، وكيف يشبه قول البشر وهو كلام الباري جل وعلا الذي لا يشبه بصفاته البشر، فالبشر لهم صفاتهم في كلامهم وفي سمعهم وبصرهم وإدراكاتهم وأعضائهم، والله جل وعلا له صفات في كلامه وفي سمعه وبصره وجميع صفاته فلا يشبه في صفاته -التي منها كلامه- لا يشبه صفات البشر.
فمن قال عن القرآن إنه قول بشر، أو إنه مخلوق، أو هو قول جبريل، أو نحو ذلك، وليس بقول الله جل وعلا، أو أنه كلام جبريل وليس بكلام الله جل وعلا فإنّ هذا كافر بالله العظيم؛ لأن من قال إنّ القرآن كلام البشر فإن هذا كفر، كما قال سبحانه ?إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ(25)سَأُصْلِيهِ سَقَرَ?[المدثر:25-26] لقول الوليد.
إذا تبين لك ذلكن فإنهم قالوا أيضا -أي المشركون- قالوا: إنما يعلمه بشر. كما قال سبحانه ?وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ?[النحل:103]، فالذين أبوا هداية القرآن وأبوا الإذعان له وصفوا القرآن بصفات:
قال بعضهم: هو كِهانة.
وقال بعضهم: هو شعر.
وقال بعضهم: هو قول بشر.
وقال بعضهم: أساطير الأولين.
وكل هذه الأقوال يعلمون أنما هي لتنفير الناس عن قبول هذا القرآن، فلقد تواعد كما هو معلوم في القصة ثلاثة من كفار قريش ألا يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل قبل ذلك وكلهم كان يراد بالقرآن، ذهب أحد هؤلاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام في الليل يسمع قراءته للقرآن، ولما ذهب وجد فلانا وفلانا فإذا بهم ثلاثة يسمعون القرآن لما له من سلطان على نفوسهم، ثم لما رجعوا تقابلوا في الطريق، فتواعدوا ألا يسمعوا مرة أخرى لهذا القرآن؛ لأجل ألا يراهم بعض العامة وبعض الناس فلا يقبل قولهم في رد القرآن، ثم لما جاء من الليلة الثانية اجتمعوا أيضا ثم صارت أيضا ثالثة حتى رأوا أنهم لابد أن يتفارقوا على ذلك، ?وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26)فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا?[فصلت:26-27].
كذلك لما أرسل الوليد أو عقبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليفاوضه في شأن القرآن وأن يترك هذا الأمر، قال له: يا محمد إن أردت ملكا ملكناك، وإن أردت مالا جمعنا لك من المال ما تكون به أغنى العرب، وإن أردت نساء نظرنا في أجمل نساء العرب فأتينا بهن إليك. فقال عليه الصلاة والسلام له هذا الذي عندك؟ اسمع فتلا عليه صدر سورة فصلت بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ? حم(1)تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ?[فصلت:1-4] ومر عليه الصلاة والسلام في التلاوة حتى بلغ قوله تعالى ?فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ?[فصلت:13] فالتفت إليه الرجل وقال حسبك الآن، فرجع إلى قومه لما رأوه مقبلا، قالوا لقد أتاكم فلان بوجه غير الوجه الذي ذهب به، فلما حضر، قالوا ما عندك يا فلان؟
فقال: إني سمعت كلاما ليس هو بالشعر، وليس هو بالكهانة، وليس هو بالكلام الذي نألف، إن له لحلاوة، وإن عليه لطُلاوة -أو طَلاوة أو طِلاوة مثلثة- وإن أسفله لمورق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.
فتبين بذلك أن أولئك الذين قالوا هو كهانة هو شعر وهو قول البشر أنهم هم الذين ردوا على أنفسهم ?وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا?[النمل:14].
هذه المسألة يمكن أن نمر عليها فيما ذكر بشيء من التقرير العام كما فعل الشارح؛ لكن هذه المسألة متصلة ببحث عظيم، وهو بحث دلائل النبوة؛ لأن كون القرآن لا يشبه كلام البشر ولا يشبه قول البشر هو المسألة الموسومة عند العلماء بمسألة إعجاز القرآن وأن القرآن معجز، وهذه ولاشك مسألة مهمة قلّ بل أن تتعرض لها كتب العقائد، ولها صلة ببحث دلائل النبوة فهي في التوحيد؛ لأن صلتها تارة بدلائل النبوة من كون القرآن معجزا ودليلا على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه منزل من عند الله، ومن جهة أخرى لها صلة بمبحث كلام الله جل وعلا وهو أن القرآن لا يشبه كلام البشر وأن كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر.
فلا بأس إذن أن نقرر هذه المسألة وهي المسألة الموسومة بإعجاز القرآن؛ لأجل ندرة الكلام عليها في كتب العقائد مفصلة، ونذكر منها بعض ما يناسب هذه الدروس المختصرة.
لتقرير هذه المسألة وهي مسألة إعجاز القرآن، وقد تكلم فيها أنواع من الناس من جميع الفرق والمذاهب، نجعل البحث فيها في مسائل، نقول:
المسألة الأولى: أن لفظ الإعجاز لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وإنما جاء في القرآن وفي السنة أنّ ما يعطيه الله جل وعلا للأنبياء والرسل وما آتاه محمد عليه الصلاة والسلام هو آية وبرهان على نبوته، فلفظ المعجزة لم يأتِ كما ذكرنا من قبل في الكتاب ولا في السنة وإنما هو لفظ حادث ولا بأس باستعماله إذا عني به المعنى الصحيح الذي سيأتي.
الذي جاء في القرآن الآيات والبراهين؛ لكن العلماء استعملوا لفظ الإعجاز لسبب، وهو أن القرآن تحدى الله جل وعلا به العرب، تحدى الله جل وعلا العرب بأن يأتوا بمثله، أو أن يأتوا بعشر سور مثله أو أن يأتوا بسورة من مثله، فلما تحداهم فلم يغلبوا، ولم يأتوا بما تحداهم به، فدل ذلك على عجزهم، وذلك بسبب أن القرآن معجز لهم فلم يأتوا بمثله، قال جل وعلا ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88]، وقال جل وعلا ?قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(13)فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ?[هود:13-14].
إذا تبين ذلك فالتحدي لما وقع وعجزوا، وهم يريدون أي وسيلة لمعارضة القرآن وإثبات أنه قول البشر، فاتوا بمثل عشر سور، ائتوا بمثله، ائتوا بسورة من مثله، لما عجزوا سمى العلماء فعلهم ذلك أو عجزهم سموه: مسألة إعجاز القرآن؛ لأجل التحدي وعجز الكفار أن يأتوا بمثله.
المسألة الثانية: أن كلام الله جل وعلا هو المعجز، وليس أنّ الله جل وعلا أعجز لأجل السماع، أعجز لما أنزل القرآن.
والفرق بين المسألتين أن الإعجاز صفة القرآن، ولكن لا يقال أن الله جل وعلا أعجز البشر عن الإتيان بمثل هذا القرآن؛ لأن هذا القول يتضمن، بل يدل على أنهم قادرون لكن الله جل وعلا سلبهم القدرة على هذه المعارضة.
فإذن الإعجاز والبرهان والآية والدليل في القرآن نفسه لم؟ لأنه كلام الله جل وعلا، ولا يقال إنّ الله جل وعلا أعجز الناس، أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو صرفهم عن ذلك، كما هي أقوال يأتي بيانها.
فإذن تنتبه على أن تعبير أهل العلم في بهذه المسألة أن القرآن آية فآية محمد عليه الصلاة والسلام القرآن، آية نبوته وآية رسالته القرآن؛ بل محمد عليه الصلاة والسلام لما سمع كلام الله جل وعلا خاف عليه الصلاة والسلام، فلما فجأه الوحي وهو بغار حراء فأتاه جبريل فَقَالَ له: اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ?[العلق:1-2] إلى آخر ما أنزل في أول ما نبئ النبي عليه الصلاة والسلام، فرجع بها عليه الصلاة والسلام يرجف بها فؤاده؛ لأن هذا الكلام لا يشبه كلام أحد، ولم يتحمله عليه الصلاة والسلام لا في ألفاظه ومعانيه ولفظه، ولا أيضا في صفة الوحي والتنزيل، فما استطاع عليه الصلاة والسلام أن يتحمل ذلك فرجع بهن -يعني بالآيات- يرجف بها فؤاده عليه الصلاة والسلام إلى آخر القصة.
إذن فالنبي عليه الصلاة والسلام أول ما جاء الوحي لم يتحمل هذا الذي جاءه، لم؟ لأنه كلام الله جل وعلا، وأما كلام البشر فإنه يتحمله لما سمع منه.
المسألة الثالثة: أقوال الناس في إعجاز القرآن.
مسألة إعجاز القرآن -كما ذكرنا- لها صلة بدلائل النبوة، والقرآن معجز لمن؟ للجن والإنس جميعا؛ بل معجز لكل المخلوقات لم؟ لأنه كلام الله جل وعلا، كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام الخلق، وكون القرآن معجزا، راجع إلى أشياء كثيرة يأتي فيها البيان.
فاختلف الناس في وجه الإعجاز لجل أن إعجاز القرآن دليل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام في أقوال:
القول الأول: ذهب إليه طائفة من المعتزلة ومن غيرهم حتى من المعاصرين الذين تأثروا بالمدرسة العقلية في الصفات والكلام، قالوا: إنّ القرآن الإعجاز فيه إنما هو بصرف البشر عن معارضته، وإلا فالعرب قادرة على معارضته في الأصل؛ لكنهم صُرفوا عن معارضته، فهذا الصرف هو قدرة الله جل وعلا، لا يمكن للنبي عليه الصلاة والسلام أن يصرفهم جميعا عن معارضته، وهذا الصرف لابد أن يكون من قوة تملك هؤلاء جميعا وهي قوة الله جل وعلا.
فإذن الصرفة التي تسمع عنها، القول بالصرفة؛ يعني أن الله صرف البشر عن معارضة هذا القرآن، وإلا فإن العرب قادرون على المعارضة.
وهذا القول هو القول المشهور الذي ينسب للنظام وجماعة بما هو معلوم.
وهذا القول يرده أشياء نقتصر منها على دليلين: الدليل الأول سمعي نقلي من القرآن، والدليل الثاني عقلي.
أما الدليل القرآني فهو قول الله جل وعلا ?قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا?[الإسراء:88]، فالله جل وعلا أثبت أنّ الإنس والجن لو اجتمعت على أن تأتي بمثل هذا القرآن وصار بعضهم لبعض معينا بالإتيان بمثل هذا القرآن أنهم لن يأتوا بمثله، وهذا إثبات لقدرتهم على ذلك؛ لأن اجتماعهم مع سلب القدرة عنهم بمنزلة اجتماع الأموات لتحصيل شيء من الأشياء، فالله جل وعلا بيّن أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وكان بعضهم لبعض معينا وظهيرا على المعارضة، فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فأثبت لهم القدرة لو اجتمعوا قادرين وبعضهم لبعض يعين، لكنهم سيعجزون عن قدرهم التي ستجتمع وسيكون بعضهم لبعض معينا على المعارضة، وهذه الآية هي التي احتج بها المعتزلة على إعجاز القرآن، ففيها الدليل ضدهم على بطلان الصرفة.
أما الدليل الثاني وهو الدليل العقلي أن الأمة أجمعت من جميع الفرق والمذاهب أن الإعجاز ينسب ويضاف إلى القرآن ولا يضاف إلى الله جل وعلا، فلا يقال إعجاز الله بالقرآن، وإنما يقال باتفاق الجميع وبلا خلاف هو إعجاز القرآن، فإضافة الإعجاز إلى القرآن تدل على أن القرآن معجز في نفسه، وليس الإعجاز من الله بصفة القدرة؛ لأننا لو قلنا الإعجاز إعجاز الله بقدرته الناس عن الإتيان بمثل هذا القرآن، فيكون الإعجاز بأمر خارج عن القرآن، فلما أجمعت الأمة من جميع الفئات والمذاهب على أنّ الإعجاز وصف للقرآن علمنا بُطلان أن يكون الإعجاز صفة لقدرة الله جل وعلا؛ لأن من قال بالصرفة بأن الله سلبهم القدرة هذا راجع الإعجاز -يعني تعجيز أولئك- راجع إلى صفة القدرة وهذه صفة الربوبية.
إذن لا يكون القرآن معجزا في نفسه، وإنما تكون المعجزة في قدرة الله جل وعلا على ذلك، وهذا لاشك أنه دليل قوي في إبطال قول هؤلاء.
لهذا المعتزلة المتأخرون ذهبوا على خلاف قول المتقدمين في الإعجاز بالصرفة؛ لأن قولهم لا يستقيم لا نقلا ولا عقلا.
المذهب الثاني: من المذاهب في إعجاز القرآن، من قال القرآن معجز بألفاظه، فألفاظ القرآن بلغت المنتهى في الفصاحة؛ لأنّ البلاغيين يعرفون الفصاحة:
فصاحة المفرد في سلامته من نُفرة فيه من غرابته
فالقرآن مشتمل على أعلا الفصيح في الألفاظ، ولما تأمل أصحاب هذا القول جميع أقوال العرب في خطبهم وأشعارهم، وجدوا أن كلام المتكلم لابد أن يشتمل على لفظ داني في الفصاحة، ولا يستقيم في كلام أي أحد -في المعلقات وفي خطب العرب ولا نثرهم ولا في مراسلاتهم إلى آخره- لا يستقيم أن يكون كلامهم دائما في أعلى الفصاحة، فنظروا إلى هذه الجهة فقالوا الفصاحة هي دليل إعجاز القرآن لأن العرب عاجزون.
وهذا ليس بجيد؛ لأن القرآن اسم للألفاظ والمعاني، والله جل وعلا تحدى أن يؤتى بمثل هذا القرآن، أو بمثل عشر سور مثله مفتريات -كما زعموا- وهذه المثلية إنما هي باللفظ وبالمعنى جميعا وبصورة الكلام المتركبة.
فإذن وكونه معجزا بألفاظه نعم لكن ليس وجه الإعجاز الألفاظ وحدها.
القول الثالث: من قال إنّ الإعجاز في المعاني وأما الألفاظ فهي على قارعة الطريق، مثل ما يقول الجاحظ وغيره؛ يعني فيما ساقه في كتاب الحيوان يقول: الشأن في المعاني أما الألفاظ فهي ملقاة قارعة الطريق. يعني أنّ الألفاظ يتداولها الناس؛ لكن الشأن في الدلالة بالألفاظ على المعاني، وهذا لاشك أنه قصور لأن القرآن معجز بألفاظه وبمعانيه وبصورته العامة كما سيأتي في وق من القوال الآتية.(1)
القول الرابع: من قال إن القرآن معجز في نظمه، ومعنى النظم الألفاظ المتركبة والمعاني التي دلت عليها الألفاظ وما بينها من الروابط؛ يعني أن الكلام يحتاج فيه إلى أشياء، يحتاج فيه على ألفاظ وإلى معانٍ في داخل هذه الألفاظ يعبر بها، يعبر بالألفاظ عن المعاني وإلى رابط يربط بين هذه الألفاظ والمعاني بصور بلاغية، وفي صور نحوية عالية، وهذا المجموع سماه أصحاب هذا القول النَّظم.
وهذا هو مدرسة الجُرجاني المعروفة العلامة عبد القادر الجرجاني فيما كتب في دلائل الإعجاز وفي أسرار البلاغة، وهذا القول لما قال به الجرجاني وهو مسبوق إليه من جهة الخطّابي وغيره يعني في كلمة، هو أراد به الرد على عبد الجبار المعتزلي في كتابه المغني، فإنه ألف كتاب المغني وجعل مجلدا كاملا في إعجاز القرآن، وردّ عليه بكتاب دلائل الإعجاز وأن الإعجاز راجع إلى اللفظ والمعنى والروابط؛ يعني إلى النظم نظم القرآن جميعا، المقصود بالنظم يعني تآلف الألفاظ والجمل مع دلالات المعاني البلاغية واللفظية وما بينها من صلات نحوية عالية.
__________
(1) انتهى الوجه الأول من الشريط.
وهذا القول قول جيد؛ ولكن لا ينبغي أن يُقصر عليه إعجاز القرآن.
القول الخامس: من قال في إعجاز القرآن فيما اشتمل عليه، فالقرآن اشتمل على أمور غيبية لا يمكن أن يأتي بها النبي عليه الصلاة والسلام؛ بأمر الماضي وبأمر المستقبل، واشتمل القرآن أيضا على أمور تشريعية لا يمكن أن تكون من عند النبي عليه الصلاة والسلام، واشتمل القرآن على هداية ومخالطة للنفوس لا يمكن أن تكون من عند بشر، وهذا قول لبعض المتقدمين وجمع من المعاصرين بأن القرآن محتمل على هذه الأشياء جميعا..
ولكن هذا القول يُشكل عليه أنّ إعجاز القرآن الذي تُحديت به العرب، والعرب حينما خوطبوا به خوطبوا بكلام مشتمل على أشياء كثيرة، وكان التحدي واقعا أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل سورة أو بعشر سور مثله مفتريات كما زعموا، وهذا يؤول إلى ما تميزت به العرب، وهو مسألة البلاغة وما تميزوا به من رِفعة الكلام فصاحته وبلاغته، والعرب لم تكن متقدمة عارفة بالأمور الطبية ولا بالأمور الفلسفية ولا بالأمور العقدية ولا بالغيبيات، وليس عندهم معرفة بالتواريخ على تفاصيلها ونحو ذلك، حتى يقال إن الإعجاز وقع من هذه الجهة؛ لكنهم خوطبوا بكلام من جنس ما يتكلمون به -يعني من جهة الألفاظ والحروف-؛ لكنهم عجزوا عن الإتيان بذلك كلام الله جل وعلا.
القول الأخير –والأقوال متنوعة؛ لأن المدارس كثيرة-: أن القرآن معجز لأنه كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا لا يمكن أن يشبه كلام المخلوق، وهذا القول هو الذي ذكره الطحاوي هنا قال (عَلِمْنَا وأَيْقَنَّا أنه قولُ خالقِ البَشرِ، ولا يُشْبِهُ قولَ البشر، وَمَنْ وَصَفَ الله بِمعنَى مِنْ مَعاني البشر، فقدْ كَفَر، فمن أبْصَرَ هذا اعْتَبر، وعَنْ مِثْلِ قول الكفَّارِ انْزَجَر، وعَلِمَ أنَّه بصفاته-التي منها القرآن- ليسَ كالبشر) وهذا القول الذي أشار إليه لو يتفرغ إليه الشارحون -شارحوا هذه الرسالة سواء من السلفيين أو من المبتدعة من الماتريديين وغيرهم- في تقرير هذه المسألة، وهو من أرفع وأعظم الأقوال؛ بل هو قول الحق في هذه المسألة: أنّ كلام الله جل وعلا لا يمكن أن يشبه كلام البشر.
خذ مثلا فيما يتميز به المخلوقات ترى فلانا فتقول هذا عربي، وترى آخر فتقول هذا أوروبي، وترى ثالثا فتقول هذا من شرق آسيا، لم؟ لأنّ الصفة العامة دلت على ذلك، ولو أخذ الآخذ يعدد لأخذ يعدد أشياء كثيرة متنوعة دلته على أن هذه الصورة هي صورة عربي، وهذه الصورة صورة أوربي، وهذه الصورة الخَلقية صورة من شرق آسيا وهكذا.
فإذن الصورة العامة بها تتفرق الأشياء، فالذي يدل على الفرقان ما بين شيء وشيء، وأهمها الصورة العامة له.
كلام الناس –إذا انتقلنا من الصورة الخَلقية- كلام الناس يختلف بعضه عن بعض، قول الصحابة إذا سمعنا كلاما نقول هذا من قول الصحابة أو من قول السلف؛ لأن كلامهم لا يشبه كلام المتأخرين، كما قال ابن رجب: كلام السلف قليل كثير الفائدة وكلام الخلف كثير قليل الفائدة. فكلام السلف له صورة عامة تعلم أن هذا من كلام السلف، فلو أتينا بكلام إنسان معاصر وبكلمات له كثيرة وقارناها بكلام السلف لاتضح الفرق.
فإذن المخلوق البشر في كلامه متباين إذا رأيت كلام الإمام أحمد تقول هذا ليس كلام ابن تيمية، ترى كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تقريره تقول هذا ليس بكلام مثلا النووي، إذا رأيت كلام الإمام أحمد تقول هذا ليس كلام أبي حنيفة وهكذا.
فإذن الكلام له صورة له هيئة من سمعها ميز هذا الكلام، وهذا هو الذي أشار إليه الطحاوي بأنّ كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام البشر.
إذا تبين ذلك فإن كلام الله جل وعلا صفته، فهذا القرآن من سمعه أيقن بأنه ليس بكلام البشر، ولهذا بعض الأدباء الغواة مثل ابن المقفع والمعري ونحو ذلك أرادوا معارضة القرآن بصورة أدبية فظهر؛ بل افتضحوا في ذلك فغيروا منحاهم إلى منحى التأثير إلى ما أشبه ذلك في كتبهم المعروفة وهي مطبوعة، أرادوا المعارضة من جهة المعاني من جهة الألفاظ أن يأتوا شيء لكن افتضحوا لأن كلام البشر لا يمكن أن يكون مثل كلام الله جل وعلا.
العرب عندهم معرفة بالبيان هم الغاية في البيان، هم الغاية في معرفة الفصاحة هم الغاية في معرفة تركيب الكلام؛ لكنهم لما سمعوا القرآن ما استطاعوا أن يعارضوه لم؟ لأنّ الكلام لا يشبه الكلام، لا يمكن، لا يمكن أن يعارضوا؛ لأن كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام المخلوق.
إذا تبين لك ذلك، فنقول إذن: ما نقرره هو أنّ وجه الإعجاز في كلام الله جل وعلا هو أن كلام الله سبحانه وتعالى لا يشبه كلام البشر، ولا يماثل كلام البشر، وأن البشر لا يمكن أن يقولوا شيئا يماثل صفة الله جل وعلا، والناس لا يستطيعون على اختلاف طبقاتهم وتنوِّع مشاربهم أن يتلقوا أعظم من هذا الكلام، وإلا فكلام الله جل وعلا في عظمته لو تحمّل البشر أعظم من القرآن لكانت الحجة أعظم؛ لكنهم لا يتحملون أكثر من هذا القرآن، لهذا تجد التفاسير من أول الزمان إلى الآن وكل واحد يُخرج من عجائب القرآن ما يُخرج، والقرآن كنوزه لا تنفذ ولا يفتر على كثرة الرد لا من جهة التِّلاوة ولا من جهة التفسير.
إذا تبين لك ذلك فكلام الطحاوي هذا من أنفس ما سمعت وأصح الأقوال في مسألة إعجاز القرآن وهو أن الكلام لا يشبه الكلام.
إذا تبين هذا فنقول كلام الله جل وعلا في كونه لا يشبه كلام البشر له خصائص، فأوجه إعجاز القرآن التي ذكرها من ذكر، نقول هي خصائص لكلام الله جل وعلا أوجبت أن يكون كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر.
مثل ما يقول الواحد:والله هذا الشعر موزون هذا البيت فيه كسر، حرف واحد نقص قال فيه كسر، أو هذا البيت ما يمكن أن يكون كذا، لماذا؟ في هيئته العامة؛ لكن برهان يأتيك، يقول لأنه كذا، وكذا، وكذا.
فلان بخصاله دلنا بصفاته حركاته تصرفاته على أنه ليس بعربي، هذه القضية العامة لم؟ له أدلة عليها؛ لكن هذه الخصائص العرب وما تميزوا به عن غيرهم.
نقول هذا الحديث ضعيف أو هذا الحديث معلول، ما وجه علته؟ مثل ما قال أبو حاتم وغيره ممن تقدمه: إنّ أهل الحديث يعرفون العلة كما يعرف صاحب الجوهر الزيف من النقي، أنت ترى هل هذا الألماس نقي أو ليس بنقي؟ يأتيك صاحب الخبرة ويقول هذا ألماس ليس بنقي، أنت ترى ما تعرف تفرق هل هذا نقي؟
هذا الكتاب طبعته طبعة حجرية، الذي لا يعرف ما يعرف، هذا الكتاب مطبوع في روسيا كيف عرفته أنه مطبوع وليس فيه اسم البلاد؟ هذا الكتاب مطبوع في بلدة كذا في الهند لماذا؟ هذه البرهان ولكن الصفة العامة هي هذه.
ولهذا نقول وانتبه لهذا حتى تخلص من إشكال عظيم في هذه المسألة -مسألة إعجاز القرآن- لتنوع الخطاب فيها وتنوع المراس فيها نقول:
إنّ كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر، وكلام الله جل وعلا له خصائص ميزته عن كلام البشر.
ما هذه الخصائص كل ما قيل داخل في خصائص القرآن:
أولا: القرآن كلام الله جل وعلا، واشتمل القرآن على ألفاظ العرب جميعا، تجد القرآن فيه كلامات بلغة قريش، وفيه كلامات بلغة هذيل، وفيه كلمات بلغة تميم، وفيه كلمات بلغة هوازن، وفيه كلمات بلغة أهل اليمن، وفيه بلغات كثيرة بلغة حِمْيَر، ?وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ?[النجم:61]، قال ابن عباس: السمود الغناء بلغة حمير.
بعض قريش خفي عليها بعض الكلمات مثل ما قال عمر رضي الله عنه لما تلا سورة النحل في يوم الجمعة -يعني في الخطبة-، تلا سورة النحل فوقف عند قوله تعالى ?أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ?[النحل:47]، نظر فقال: ما التخوف؟ فسكت الحاضرون، فقام رجل من هذيل فقال: يا أمير المؤمنين التخوّف في لغتنا التَّنَقُّص قال شاعرنا أبو كبير الهذلي:
تخوّف الرَّحْلُ منها تامكا فردا كما تَخَوَّف عودُ النّبعة السَّفِنُ
تنقص، يعني (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) يعني يبدأ يتنقص شيئا فشيئا، ينقصون عما كانوا فيه من النعمة شيئا فشيئا، حتى يأتيهم الأجل، عمر القرشي خفيت عليه هذه الكلمة؛ لأنها بلغة أخرى.
هل يستطيع أحد من العرب أن يحيط بلغة العرب جميعا؟ لا يمكن، أن يحيط بلغة العرب جميعا بألفاظتها وتفاصيلها؟ لا يمكن، ولهذا تجد في القرآن الكلمة بلغة مختلفة، وتجد فيه التركيب النحوي بلغة من لغات العرب، فيكون مثلا على لغة حمير في النحو، أو على لغة [سدوس] في النحو، أو أعلى لغة هذيل في النحو.
فإذن الألفاظ والمعاني والتراكيب النحوية والبرهان تنوَّعت ودخلت كل لغات في العرب، هذا لا يمكن أن يكون من كلام أحد، لا يمكن أن يحيط هذه الإحاطة إلا من خلق الخلق وهو رب العالمين.
الثاني: الألفاظ، كما ذكرنا ألفاظ القرآن بلغت الأعلى في الفصاحة، والقرآن كله فصيح بألفاظه، والفصاحة راجعة إلى الكلمات جميعا؛ الأسماء والأفعال والحروف، حتى ?الم?(1) فصيح.
إذن من خصائص القرآن التي دلت على إعجازه أن ألفاظه جميعا فصيحة، وما استطاع أحد -من العرب الذين أنزل عليهم القرآن- أن يُعيبوا القرآن في لفظه مما فيه كما عابوا كلام بعضهم بعضا، بل قال قائلهم: إن له لحلاوة وإن عليه لطُلاوة. إلى آخر كلامه.
الوجه الثالث: من خصائصه المعاني، المعاني التي يتصورها البشر عند قول كلامه لابد أن يكون فيها قصور، فإذا تكلم البشر في المعاني العَقدية فلابد أن يكون عنده لاشك قصور، إذا تكلم في العاني التشريعية لابد أن يظهر خلل، إذا تكلم في المعاني الإصلاحية التهذيبية لابد أن يكون فيها خلل، ولهذا قال جل وعلا ?أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا?[النساء:82].
فإذن تنوع المعاني على هذا الوجه الثاني بما يناسب المعاني الكثيرة التي يحتاجها الناس يدل على أن هذا كلام الله جل وعلا؛ يعني أنه صفته.
هذه خصائص كرم الله جل وعلا، فلو قيل تقديرا: إننا سنصف القرآن الذي هو كلام الله جل وعلا وبه فارق كلام البشر فستعدد هذه جميعا، فهي خصائص أو أوجه للإعجاز بها صار القرآن معجزا بجميعها، لا بواحدة منها.
الوجه الرابع: أو الخصيصة الرابعة للقرآن: أنَّ القرآن فيه النَّظم مثل ما قال الجرجاني وهو من أحسن النظريات والكلام في إعجاز القرآن من جهة البيان، القرآن فيه القمة في فصاحة الألفاظ وفي البلاغة، البلاغة متركبة من أشياء؛ متركبة من ألفاظ ومن معاني ومن روابط -الحروف التي تربط بين ألفاظ والمعاني وتصل الجمل بعضها ببعض-.
__________
(1) البقرة, آل عمران, العنكبوت, الروم, لقمان, السجدة: الآية1.
فالقرآن إذن من أوجه إعجازه أو من صفاته وخصائصه أن نظمه؛ يعني أن تركيب الكلام والآيات وتركيب الجمل في الآية الواحدة يدل على أنه الغاية في البيان، ولا يمكن لبشر أو لا يمكن للجن والإنس لو اجتمعوا أن يكونوا دائما على أعلى مستوى في هذا النظم، ولهذا تجد أن تفاسير القرآن حارت في القرآن، حتى التفاسير المتخصصة في النحو تجده ينشط في أوله تجده يعجز في آخره، ما تجده ينشط، آخر تجده في البلاغة يريد أن يبين بلاغة القرآن فيجود في موضع ثم بعد ذلك تأتي مواضع يكسل، ما يستطيع أن يبين ذلك.
لهذا قال من قال من أهل العلم: العلوم ثلاثة:
علم نضج واحترق.
وعلم نضج ولم يحترق.
وعلم لم ينضج ولم يحترق.
والثالث هو التفسير، لم ينضج ولم يحترق؛ لأنه على كثرة المؤلفات في التفسير وهي مئات فإنها لم تأتِ على كل ما في القرآن، لم؟ لأن الإنسان يعجز، يعجز المبين أن يبين عن كل ما في القرآن.،
إذن نظرية النظم التي ذكرها أبي الطاهر الجرجاني في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة -على تفصيل ما فيها- لا شك أنها دالة على صفة من صفات القرآن.
الوجه الخامس: أنَّ القرآن له سلطان على النفوس، وليس ثَمَّ من كلام البشر ما له سلطان على النفوس في كل الكلام، ولكن القرآن له سلطان على النفوس بما تميز به من كلام الله جل وعلا؛ لأنه كلام الله جل وعلا، مثل ما صار السلطان على ذلك المشرك؛ يعني أنه يرغم الأنوف.
ولقد كان مرة أحد الدعاة يخطب بالعربية وفي أثناء خطبته يورد آيات من القرآن العظيم يتلوها، فكانت امرأة كافرة لا تحسن الكلام العربي ولا تعرفه، فلما انتهى الخطيب من خطبته استوقفته -وكانت خطبته في سفينة-، لما انتهى من خطبته استوقفته، وقالت: كلامك له نمط، وتأتي في كلامك بكلمات مختلفة في رنتها وفي قرعها للأذن عن بقية كلامك، فما هذه الكلمات؟ فقال: هي القرآن.
وهذا لاشك إذا سمعت القرآن تجد له سلطان على النفس ينبئ النفس على الاستسلام له، إلا لمن ركب هواه.
هذا السلطان تجده في أشياء:
أولا أن آيات القرآن -الدرس قد يطول عشر دقائق بقي مسألتان- أن آيات القرآن في السورة الواحدة -كما هو معلوم- لم تجعل آيات العقيدة على حدا، وآيات الشريعة على حدا؛ الأحكام، وآيات السلوك على حدا، إلى آخره؛ بل الجميع كانت هذه وراء هذه، فآية تخاطب المؤمنين، وآية تخاطب المنافقين، وآية تخاطب النفس، وآية فيها العقيدة، وآية فيها قصص الماضين، وآية تليها فيها من سيأتي، وآية فيها الوعد وآية فيها الوعيد، وآية فيها ذكر الجنة وذكر النار، وآية فيها التشريع، وثم يرجع إلى آية أخرى فيها أصل الخلق قصة آدم، وهكذا في تنوع.
وهذا من أسرار السلطان الذي يكون للقرآن على النفوس؛ لأن الأنفس متنوعة، بل النفس الواحدة لها مشارب، فالنفس تارة يأتيها الترغيب وتارة يأتيها الترهيب، وتارة تتأثر بالمثل، تارة تتأثر بالقصة، تارة هي ملزمة بالعمل، تارة هي ملزمة بالاعتقاد، فَكَوْنُ هذه وراء هذه وراء هذه تُغْدِقُ على النفس البشرية أنواع ما تتأثر به، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من كلام من خلق هذه النفس البشرية، ?أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ?[الملك:14]، فتجد أن القرآن يحاصرك، فأيُّ إنسان أراد أن يفر لا يمكن أن يفر من القرآن، سيأتيه قوة بآية فيها وصف الكافرين، آيات فيها قوة بوصف الكافرين، آيات فيها قوة بوصف المؤمنين، آيات فيها العقيدة، فيها الماضي، فيها الحاضر، فيها النبوة، فيها الرسالة، فيها الدلائل، فيها حال المشركين، إلى آخر ما يحصل على النفس الحية والعقل الواعي الذي يتحرك وعنده همة يحصر عليه الهروب، وهذا لا يمكن أن يحصره في أنواع النفس البشرية الواحدة إلا من خلق هذه النفس وتكلم بهذا القرآن لإصلاحها، ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?[الإسراء:9].
فكيف إذن بأنواع الأنفس المختلفة، هذا الذي يصلح له الترغيب، وهذا الذي يصلح له الترهيب، وهذا الذي يصلح له وصف الجنة، وهذا الذي ينشأ عنده الإيمان بالحب وإلى آخره، وذلك الذي ينشأ عنده الإيمان بالجهاد، ونحو ذلك، تنوع الأنفس وخطاب القرآن للناس جميعا على تنوع أنفسهم هذا دليل ثانٍ على أن القرآن له سلطان على النفوس.
أيضا تجد أن القرآن خُوطب به من عنده فن الشعر وما يسميه بعض الناس موسيقى الكلام؛ يعني رنات الكلام، بعض الناس عندهم شفافية بالتأثر باللحن، بالرنات، بالصعود والنزول في نغمة الكلام، هذا أيضا هذا النوع من الناس تجد في القرآن ما يجبره على أن يستسلم له.
لَبيد بن رَبيعة صاحب معلقة وصاحب ديوان مشهور، قيل له: ألا تنشدنا من قصائدك، لم وقفت عن الشعر؟ قال أغناني عن الشعر وتذوقه -أو كما قال- سورتا البقرة وآل عمران؛ لأن هذا الشيء هو له تذوق في هذا الفن بخصوصه، فيأتي القرآن فيجعل سلطانه على النفس فيقصره قصرا، لهذا قال جل وعلا ?وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41)لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ?[فصلت:41-42]، وقال